أعادت احتجاجات العمّـال البنغال في الكويت، قضية العَـمالة الوافدة في الخليج إلى الواجهة وأثارت معها جُـملة من الأسئلة الصعبة عن حقوق الإنسان - غيرالخليجي وغير الأوروبي أو الأمريكي - في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
قضية العمّـال البنغال وما رافقها من مواقف، بعضها حذر من تفجّـر خطير داخل المجتمع الكويتي، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ما دامت الحاجة إلى العمالة الرخيصة تبقى مستمرة في منطقة تزداد ثراء يوما بعد يوم وتتحول وتتطوّر بسرعة بالغة..
وما لم تصِـل دول المنطقة الخليجية إلى حلول ثابتة وحقيقية وجذرية لهذه الأزمة الإنسانية الأخلاقية، التي تضر كثيرا بسمعتها، فستبقى هذه المشكلة تحمل معها بذور انفجارات واحتجاجات أخرى، ليس في الكويت وحسب، وإنما في مُـعظم دول الخليج العربية التي تعتمِـد العمالة الآسيوية في كل تفاصيل حياتها اليومية.
وليس أدل على أن النار لا تزال تحت الرّماد، ما كتبته الصّحف الكويتية نفسها عن "ثورة جياع البنغال" أو "ثورة بني بنغال" و"ثورة الجياع" و"كرة النار العمالية"، لتشير إلى حجم المشكلة وتداعياتها في المستقبل – اللّهُـم إلا إذا تخلّت الكويت وباقي دول الخليج العربية عن العمالة الآسيوية الرخيصة - وهذا لن يحصل، مع العِـلم أن أكثر من 400 ألف عامل بنغالي - حسب إحصاء رسمي - يتواجدون في الكويت لوحدها.
"العين بصيرة.. واليد قصيرة"؟
وللإقتراب أكثر من الصورة الحقيقية، لا مفر من الإقرار أولا بأن معظم الاحتجاجات - أي احتجاجات - تتخللها أعمال شغب من طرف متطرّفين ومنفعلين وحتى من مندسّين و"صائدين في الماء العكر" مثلما يُقال. وهذا بالطبع لا يُـبرر أن تتعامل السلطات مع الاحتجاجات العمالية بلغة القمع التي لا تميِّـز بين محتجّ يُعاني الخصاصة والفقر، وآخر مشاغب لا يهمّـه أن يكون هنا أو هناك، مع ملاحظة أن "أعمال الشغب" يُـنظر لها في أغلب الأحيان بأنها طبيعية ويجب أن لا تؤثر على قرارات يجِـب أن تصدر لصالح العمالة الوافدة.
فهناك في واقع الأمر آلاف بل مئات الآلاف من العمال يعيشون تحت خط الآدمية في معظم دول الخليج، على رغم أنف قوانين العمل والمقررات الدولية ولوائح حقوق الإنسان، خاصة وأن قوانين العمل في العديد من البلدان المعنية فُصّلت – دائما - لصالح أرباب العمل، كما تمت ملاحظته في كل الحالات السابقة عن احتجاجات العمال.
وهؤلاء - المساكي فعلان - تخدعهم الشركات والوسطاء بعقود لا ترى النور إلا بعد اندلاع الاحتجاجات، ولكي يجري ترحيل المحتجين ولملمة القضية! فالعقود - في الكويت مثلا – تسجّـل للعامل راتبا شهريا قدره أربعون دينارا فقط!! ولا يستلم منها العامل إلا الرُّبع، وبعد أربعة شهور على الأقل، دون أن يتوقف أحد للتفكير بنتائج مثل هذا الظلم على المجتمع.
العمال تظاهروا بعد إضرابات استمرت ثلاثة أيام لم يحصدوا منها إلا وعودا وكلمات! وهم يعلمون جيدا أن الترحيل سيكون مصير معظمهم، وماذا عسى الغريق أن يفعل؟ أما مطالب العمال الغاضبين، فتمثلت أساسا في الحصول على رواتبهم وِفق العقود التي وقّعوا عليها، إضافة إلى ضرورة أن يكون الرّاتب خمسين دينارا كويتيا (..) مع إجازة شهر مدفوعة وصرف تذكرة سفر كل سنتين للعامل ووجود مواصفات خاصة للسكن، إضافة إلى ضرورة أن لا تزيد ساعات العمل اليومية عن ثمان ساعات.
السلطات سارعت إلى قمع الاحتجاجات باستخدام قنابل الغاز المُـسيل للدموع، وما بين التفكير بأمن البلاد واستقرارها وضرورة الاستجابة إلى أبسط المطالب الإنسانية للعمال المحتجِّـين، تأرجحت مواقف الحكومة ومجلس النواب في دولة الكويت.
وكان مُـلفتا في الاحتجاجات الأخيرة أنها دفعت ببعض منظمات المجتمع المدني إلى أن ترفع من سقف انتقاداتها للقوانين والأعراف والثقافات السائدة بشأن العمالة الآسيوية، فقد أقرّ عبد الواحد الخلفان من حركة العدالة والسلام بوجود "مافيا" في الشركات الخاصة التي تجلُـب هذه العمالة، ومن ثم لا تعطيها حقوقها كاملة، وهي التي تحصل على المناقصات من الحكومة بمبالغ وأجور عالية، غير أنها لا تعطي حقوق هذه الطبقة الفقيرة.. وتأكل حقوقها..
مجلس النواب الكويتي تنادى إلى عقد جلسة طارئة نوقشت فيها أهمية أن تتَّـخذ الحكومة موقفا حازما من الشركات المعنية، مع ملاحظة أن بعض النواب اعترف بأن العَـين بصيرة واليَـد قصيرة، لأن هذه الشركات يملكها نافِـذون في الحكومة ومن الشخصيات التي يصعب المساس بها واتهامها..
وهدّد بعض هؤلاء النواب باللّجوء إلى مساءلة الحكومة، ما يعني أن البلاد قد تدخل في أزمة سياسية جديدة، إذا استمرت التداعيات، وكما عبّـر عنها خالد الطاحوس، رئيس الاتحاد الوطني للعمال والموظفين في الكويت، بأنها قنبلة مَـوقوتة محذِّرا من تفجُّـرها قريبا في أوساط عمالة أخرى، وربما العمالة المصرية التي قادت احتجاجات خيطان الشهيرة عام 1999.
الحكومة .. مسؤولة؟
صحيح أن قضية العمّال البنغال حصلت على تعاطف من بعض القوى المدنية ومن نواب برلمانيين، غير أن الثقافة الاستعلائية السائدة في هذه الدول حول العمالة الآسيوية، وبل معظم الوافدين – ما عدا الأوروبيين والأمريكيين - دفعت ببعض الكتّاب الكويتيين إلى الادّعاء بأن المشكلة ليست كويتية وليست خليجية، وإنما هي مشكلة عالمية! محاولين الربط - دون وجود أي وجه مقارنة - بين ما حصل أو سيحصل بسبب الظلم الذي يلحق بالعمالة الآسيوية والتشريعات التي تصدر في أوروبا حول مكافحة الهجرة غير الشرعية.
ولا يميِّـز هؤلاء الكتّاب بين عمّال جِـيء بهم من بلادهم وِفق عقود ودخلوا البلاد بصورة شرعية، وبين ما يسمونها العمالة الهامشية أو العمالة السائبة، متسائلين بطريقة تُـثير الكثير من الاستفزاز لمشاعر العمال: لماذا العمالة البنغالية تحديدا أو العمالة القادمة من بنغلادش هي التي تثير دائما الاضطرابات والمشاكل؟
والأكثر غرابة، أن مثل هؤلاء الكتّاب ينكِـرون على العمال حقّـهم في الإضراب، وتجدهم يقِـفون في صف الشركات التي تهضم الحقوق وتختبِـئ خلف أسماء وأُسِـر وتحرِّض أيضا على "معاقبة" من يصرخ بآه وآخ وهو يُـذبح ولا يستطيع أن يفتح فمه، بذريعة الخِـشية من أن تتحول القضية من "تعاقد تجاري" إلى مسألة أمنية (!) خصوصا وأن الطرف الآخر في القضية، بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية.
وما من شك وفي ضوء كل ما جرى في الأيام الأخيرة، فإن احتجاجات العمّال البنغال اندلعت بسبب الظُـلم والحيف من قِـبل وزارات وشركات رست عليها مناقصات حكومية في أغلب مؤسسات الدولة، وهذا ما يراه على الأقل خالد الطاحوس، رئيس الاتحاد الوطني لعمال وموظفي الكويت، الذي حمَّـل الحكومة الكويتية المسؤولية لعدم مراقبتها هذه الشركات والعقود التي أبرمتها مع العمالة التي استُـقدمت من بنغلادش أو غيرها.
عدد من الكتّاب في الكويت حذّر أيضا من مخاطر الاتجار بعمالة وهمِية مقنعة، سمّـاها البعض بـ "تجارة الرقيق"، محملا الحكومة المسؤولية في "التساهل" مع هذه الشركات النافذة التي تتاجر بأرواح العمالة الوافدة، وهذه العمالة تدفع أموالا طائلة حتى تأتي للكويت وتتفاجَـأ بأنه لا يوجد هناك عمل، وهذا أيضاً خطير على الكويت، لأنه يخل بالتركيبة السكانية وأدى إلى ظهور جرائم سرقة وقتل ودعارة ورواج تجارة المخدرات.
أخيرا، ما حصل في الكويت تتأثر به بقية دول الخليج التي عانى بعضها من تحركات مماثلة، ما يثير مخاوف من أن كُـرة النار ...ما تزال تتدحرج في الكويت!